f مدونة إعادة نظر: مجتمع الفصام

الاثنين، 24 مايو 2010

مجتمع الفصام





أيقنت عبر تجربتي مع القطارات أن هذه الصناديق الحديدية المتحركة أكبر من أن تكون مجرد وسيلة نقل باردة، فهي فضاء اجتماعي مثالي لممارسة لعبة الأقنعة بما أنها تجمع على خشبة واحدة ولمدد زمنية محددة شخصيات من خلفيات متنوعة ومن مناطق متباعدة.

جميعنا نستطيع مباشرة بعد ابتياع التذكرة تقمص ما نشاء من الشخوص، وفق عظم المكبوتات وحسب درجة التشوه النفسي والاجتماعي، ونستطيع استعارة تاريخ شخصي حافل بالأمجاد، وتبني أكثر الأفكار تنورا وثورية، دون أية تبعات ولا التزامات
، فدور اللاعب في علبة التنفيس تلك ينتهي حين يصفر القطار معلنا دخول المحطة التي تنتهي فيها الرحلة، لا أحد سيتذكر كلامه "ليعلقه من لسانه" كما يقول المثل الدارج. إنه مسرح شعبي كبير التمثيل فيه رياضة وطنية، والتصنع إغراء عظيم السطوة.

هي إذن حالة من الفصام بين ما نتمنى أن نكونه وما نحن عليه حقيقة، تعبر عن نفسها كلما واتتها الفرصة وتبقى كامنة مستترة في أخرى. فنحن مجتمع تربى المرء فيه على أن لا يهتم كثيرا بتقديره الشخصي لذاته بالقدر الذي يهمه ويفزعه حكم الآخرين عليه، لذلك تجد الغش والزيف أكثر السلع رواجا على الإطلاق في كل المجالات، من الأكثر عمومية كالوعي السياسي الزائف الذي يبيع شعارات جوفاء دون أن تكون له جرأة التغيير الفعلي، إلى أكثرها خصوصية كالتدين الشكلي الذي يضخم المظاهر ويقزم الشعائر.

هذه الإزدواجية بين ما نعلنه للإستهلاك الخارجي وما نمارسه حقيقة على الأرض لا تخص فئة اجتماعية دون أخرى أو مستوى ثقافي دون غيره بل هي وباء عام يكاد يفتك بالجميع، ليخلف أجيالا مرتبكة مهزوزة تعيش على تناقضات جلية لا يصعب التقاطها، فالناشطة النسائية الشرسة تشغل قاصرات بمسكنها الفخم، والسياسي الفاسد الذي مر إلى كرسيه عبر جسر الرشى يتوعد على الشاشات المرتشين بأشد العقاب، وحتى المواطن البسيط الذي يشتكي القهر ويتغنى بمزايا الحرية يمارس اشد أنواع العسف على أبنائه أو تلاميذه أو أخواته.

لا عجب إذن أن ينتج مجتمع الفصام هذا نماذج متعددة من "الإنسان الهلامي" عديم الملامح، فاقد اللون والطعم والرائحة، إنسان مائع يتكيف مع الذوق السائد ويغير قناعاته كما بنفس الوثيرة التي يغير بها ملابسه الداخلية، ويركن إلى الخيارات السهلة الغير المكلفة وإن كانت خاطئة، دون أن يدري أن الموج يرمي من يركبه وإن حمله أول الأمر، وأن قدر من يساير التيار هو العيش بين الحفر، فالماء لا يرتقي للأعلى.

هناك تعليق واحد:

  1. مقال أعاد بذاكرتي إلى شهر مارس ربما، حينما قرأته لأول مرة، في أحد المنابر، ونال إعجابي حينها كثيرا غير أن الوقت لم يسمح لي بالتعليق عليه.
    مقال صادق يبين مدى تناقض البعض مع ذواتهم، يوصلون بفمهم شيء، ويفعلون غير ذلك، شخصيتهم شيء وما يعيشونه شيء آخر، إذن هي حالة انفصام يعيشها الفرد، ليس مجبرا وإنما مخيرا، ربما لنقص ما كان قد طاله مدة أطول، ربما لتفريغ بعض المكبوتات التي لم يستطع إفرازها من ذي قبل.
    إن الطموح والسعي إلى الرقي ليس عيبا لكن العيب كل العيب أن توصل للآخرين عن شخصك مالايوجد فيك، وهذا تملص مباشر من الواقع الحي المعاش، وكل العيب أيضا أن تتناقض ونفسك بين الحين والآخر.
    دمت مبدعا أستاذ خالد.

    ردحذف