f مدونة إعادة نظر: أجمل مدينة !!

الجمعة، 16 أكتوبر 2009

أجمل مدينة !!







تقول إحدى حكايا الهنود الحمر أن محاربا شجاعا وقائدا عظيما لقبيلة قديمة استبد به الملل من حروبه وانتصاراته، ففكر في الترويح عن نفسه عبر رحلة يزور فيها أجمل مكان في العالم، لجأ المحارب الهندي إلى نسر عملاق ورجاه أن يقله إلى أجمل مكان رآه النسر طوال تنقلاته الطويلة بين أصقاع الأرض، وبالفعل طار النسر بالهندي وقطعا معا الأيام الطوال مرتحلين إلى أن حط النسر أخيرا على صخرة جرداء في قلب المحيط، وحين صاح المحارب بالنسر مستنكرا أن يأتي به إلى صخرة مقفرة عوض أن يريه عجائب الأرض أجاب النسر:هذا أجمل مكان في الوجود بالنسبة لي..هنا ولدت.

مثل نسر الأسطورة الهندية لدينا نحن أيضا صخرة مقفرة نسكنها في حلنا وتسكننا آن ترحالنا، نعتبرها أجمل مدينة بالوجود ونسميها القصر الكبير. ومثل علاقة النسر بصخرته هناك بعض العجب في علاقتنا بمدينتنا
، فكثيرا ما يسألني بعض الأصدقاء بالمدن الكبرى عن سر التعلق الشديد إلى حد التعصب الذي يبديه "قصراوة" لمدينتهم وعن سبب حماستهم الزائدة لها رغم أن الزائر من غير أبنائها لا يكاد يراها في أغلب الأحيان إلا صخرة جرداء؟

هناك من سيرد على هذه التساؤلات مستعرضا تاريخ المدينة العريق وما قدمته لهذا البلد في محطات مفصلية في تاريخه، مستدلا بأمجاد معركة واد المخازن، ومعرجا على الشهامة التي عرفت في أهلها، لكني شخصيا لا أرى فيما سبق جوابا شافيا، فهناك المزيد مما ينقل بالاختبار لا بالإخبار، مثل رائحة النعناع التي تستقبلك بها المدينة وأنت على أبوابها، والنبرة المميزة في صوت القصري حين يخاطبك " آ خاي" بلكنة فريدة، والمقهى الصغيرة، حيث يمكنك أن تشرب أفضل شاي منعنع وأنت تراقب الغادين والرائحين وتثرثر إن "تدبر" لك النادل مقعدا، وأيضا صبر بائع الخضرة حين "تفاصله" تلك العجوز نصف ساعة لتشتري في الأخير بدراهم معدودة، والكثير الكثير من الأشياء الصغيرة التي تنسج مجتمعة سحر مدينة القصر الكبير.

لكن المفارقات وبواعث العجب في علاقة أهل القصر الكبير بمدينتهم كثيرة ومؤلمة، فحرارة الود تترجم ببرودة شديدة. تجد المسؤول الذي بنى مركزه المرموق (وثروته أيضا) بالتباكي على أمجاد المدينة، ورفع لواء الدفاع عنها يبيع تاريخها لأول مقاول، ويرحل عنها كما تفر الجرذان من السفن المتداعية، وتجد نفس الشاب الذي كان يستعرض بحماسة صفحات الإشراق في تاريخ المدينة يرعى مزبلة خلف حيه يغديها وينميها من وافر فضلاته، أو تجده يأوي كلما نادته الحاجة إلى ركن مظلم من زقاق عتيق ينتنه بما فاض من أحماضه، بل حتى الصغار تجدهم من فرط الحب يتبارون في رشق نوافذ القطار بحجارة من "سجيل" على كلما مر بمدينتهم.

إنه حب ينتج ثمارا فاقت ما يطرحه الكره مرارة وقتامه.. لما العجب؟ ألم تقل العرب: ومن الحب ما .. !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق